أحلام ابن النبي للشاعر المتوكل طه
أحلام ابن النبي للشاعر المتوكل طه
بقلم علي الخليلي
يواصل الشاعر الفلسطيني المتوكل طه إصداراته الشعرية المتمايزة بحرصها البارز علي التمسك بمفاهيم وتجليات أدب المقاومة في وقت تراجع فيه مصطلح أدب المقاومة ذاته، داخل المشهد الثقافي الفلسطيني (والعربي عامة)، إلي ما يشبه درجة الاختفاء، أو أنه الاختفاء الفعلي له. فليس ثمة من يذكر هذا المصطلح الآن. وإذا جري ذكره، فإنه يرتبط علي الفور بنتاج مرحلة سابقة تمتد من بداية سبعينيات القرن الماضي إلي أواخر ثمانينياته، ارتباطاً ماضوياً لما كان من شعر محمود درويش وسميح القاسم علي وجه التحديد.
ولكن، إذا كان هذان الشاعران الكبيران ومجايلوهما قد توقفوا عملياً عن إنتاج شعر المقاومة وحتي إن بعضهم أخرج جزءاً من قصائد ذلك الشعر من مجاميع منشوراته الحديثة، كأنه يتبرأ منه، أو لا يريده في سياق سيرته الذاتية، فإن جيلاً فلسطينياً جديداً يصرُّ علي شعر المقاومة إلي حينه، ويكتبه وينشره وفق إمكاناته المتاحة. غير أن هذا الجيل (وأعني بجدَّته أنه يلي جيل درويش والقاسم) لا يجد في الواقع، من يصغي إليه بشكل مؤثر، أو من يتوافق معه علي إبقاء جذوة الحياة لمصطلح أدب المقاومة .
واللافت للنظر أن عدم الإصغاء/ عدم التوافق لم يكسر هذا الإصرار، ما يؤكد علي أن تراجع أو اختفاء المصطلح، لم يتمكن من فرض حالته علي الأدب ذاته، ويبدو أن مسألة المصطلح انعكاس لـ السياسة في التراجع أو الاختفاء أو الحضور، في حين أن الأدب هو الأدب، متفوقاً علي السياسة في كل تحولاتها وتغيراتها.
المجموعة الشعرية الجديدة للمتوكل طه، تقع ضمن هذا الإصرار الثقافي، وهي تحمل عنوان أحلام ابن النبي ، وقد صدرت قبل بضعة أيام عن مكتب المؤسسات الوطنية في رام الله، مع مدخل لها نص الدخول للروائي أحمد رفيق عوض، وأعمال فنية للفنان التشكيلي خالد حوراني.
تتكون المجموعة من أربع قصائد تتكثف جميعها في قصيدة طويلة واحدة والأهم أن هذه القصيدة الطويلة أو المجموعة كلها بالمعني الملحمي لها، لا تقوم علي المتخيل وحده، بصوره ورموزه وإيماءاته، وإنما هي في الأساس، فضاء لتفاصيل واقعية محددة بالأسماء والأماكن والأحداث.
القصيدة عن الأسير نزار التميمي وخطيبته الأسيرة أحلام. ليست سرداً نورانياً لكليهما، بل اندفاعاً إلي حد الشغف، إليهما (وإلي جميع الأسري والأسيرات من خلالهما)، في أجواء ممارستهما الميدانية للمقاومة، ووقوعهما في الأسر، وسعيهما الذي لم ينقطع، رغم عتمة الزنازين الإسرائيلية إلي الحرية، والحب، والحياة.
الأسير نزار واحد من شبان الانتفاضة الأولي، استطاع أن يحقق رؤيته في الثورة ضد الاحتلال الإسرائيلي ، بوعي لا يحاصره خوف من موت أو اعتقال. وقد استشهدت والدته علي أيدي القوات الاحتلالية وهي في طريقها لحضور محاكمته. أما أحلام فإنها بطلة إحدي العمليات الفدائية في القدس. وقد تم بعد اعتقالها، إعلان خطوبتها لنزار.
كلاهما إلي حينه لم يزل في الأسر، تحت ثقل أحكام بالمؤبد. وكلاهما يمتلك إرادة الانعتاق من هذا الأسر، وقد ترسخت لديهما معاً، إرادة الإصرار الذي يبدع هذه الملحمة لهما.
يهتف الشاعر المتوكل طه علي لسان نزار:
"أنا ابن الشهيدة أمي
..
أنا ابن عناق أمير العماليق
..
أنا وحشة الورد، إن حرقوا ياسمين الحياة
..
أنا الصبح، كوفية الفهد، ليل الرصاص النهاري،
نورسة البرتقال، وآذار زهرتها القرمزي
..
أنا خارج من قيودي
إلي قمرٍ في الخزامي.. .
لا يتوقف الهتاف . ولا بدَّ من الانتباه، ذلك أنهم، أولئك الواقفون علي المنصة السياسية بهذا الشكل أو ذاك يريدوننا خلف هذا الزمن ، باسم السلام. وأي سلام؟ وهنا نسمعُ صوت نزار، وهو في زنزانته، أشدّ وضوحاً:
أيها القوم،
.. إنكم خير مَنْ يعرف الريح
في روح هذي البلاد
فإما لنا سوف تبقي، وإما لنا
لا بياض علي جنح هذا الغراب
ولا فحمة في الجليد .. ."
ليس سوي الوهم أو الخديعة فوق المنصَّة. أما الأرض فإنها لأهلها الشرعيّين، كانت وستبقي، و هذي الزنازين قلعتنا للصعود إلي راية في
الشروق .
ونزار لم يولد محارباً . كان له حلم طفولته وصباه في مجتمع حرّ ومطمئن، لولا الاحتلال الذي صادر هذا الحلم، وحطّمه، ليولد المحارب:
"وكم كنت أَحلم أن أستريح علي حجر،
والرعاة يبثّون أحزانهم للغزالة ..
وكم كنت أرغب في جمع لبلاب ليمونة للزفاف
وأنظر كالصقر في ليل قريتنا من جديد،
فتبدو قناديلها ذهباً ناعس اللون ."
ونزار الآن في الزنزانة، فهل تمكنت إسرائيل من قتل حلمه حقاً؟ يصرخ المتوكل طه باسمه: هنا أصرخ الآن، إني أنا الحر، ما زلت في مهرجان المواسم متشحاً بالقطاف/ لقد سلبوا كل شيء لنا/ إنما ظل فينا الهتاف/ اذهبوا كي نري غدنا مثلما كان أمس أجدادنا/ أو أصيخوا إلي النار... .
أغنية الجيتار:
حملت أحلام جيتارها، وذهبت إلي مقهي للغرباء في القدس. انفجر الجيتار، وتحدثت الأنباء عن عملية فدائية، كانت أحلام قد أحبت نزاراً وهو في السجن. قالت: عندما نختار أن نحب، نتجه نحو الحرية . وقد اتجهت بالفعل إلي الحرية، لحظة قيامها بالعملية، ثم وقوعها بالأسر، وصولاً إلي إعلان خطوبتها لنزار، وهي في الزنزانة، هذه الزنزانة التي أرادوها قتلاً للحب والحرية، تصير في الأغنية، طريقاً إلي الحب والحرية:
"يا فارس هذا السجن أنا أحلامك،
عدت مع الزلزال، لكي تبدأ أيامك
فاكسر قضبان الزنزانة .."
وكم كانت أحلام تتمني لجيتارها أن يكون ملعباً لأصابعها علي أوتاره، يرقص في ذهب السنبلة وحبّات
الرمان، لينفرط من البهجة في كأس عروسين انصهرا في شهد الرمان.. .
لقد حاولت تحقيق هذه الأمنية. غير أن القاتل (العدو الاحتلالي الاستيطاني) يرفض هذه الأمنية بالذات، ويعمل علي ذبحها بوسائل وأساليب شتي: القاتل يدفعنا لخطوط يديه الغارقتين.. الحربُ بلا قلب، صماء وعمياء، وتنسي في الدَهْم تعاليمَ التوراة، وتحرق آيات القرآن.. .
مع ذلك، يقف السجان قبالة أحلام، ويسألها: لماذا؟ ، لماذا تغوص بالعنصرية والتجاهل والنفي والإلغاء؟ وكأن هذا السائل البليد لا يفهم أن الاحتلال قد صادر كل شيء، بما فيه أغاني الجيتار العادية. وكأنه بلا ذاكرة، فلا مذابح دير ياسين فيها، ولا ألف مذبحة أخري علي مدار أكثر من نصف قرن؟ يخرج التاريخ إلي الهتاف، ويوفر الجواب لمن شاء أن يفهم:
السجان قبالة وجهي يسألني، وأنا أنظر.. وأشرت لأن ينظر، فرأي أجساماً تخرج من جوف الأرض، انتصبت ونَضَت عنها الأكفان البيضاء، فعادت أجساداً تتزيّا بلباس الأحياء، هنا قرية دير ياسين.. .
وتشتاق أحلام، عبر السماء التي هي طاقة هذي الزنزانة إلي أيام الجامعة الأولي، والي الحبر اللاهي في خربشة الدرس، وتدرك في الشوق، أن مهرها غال، وقد دفعه مولي قلبها إلي حد الإسراف: يا مولي قلبي، أسرفت بدفع المهر، فما أغلي مهري . وتقترب الزنزانة من الزنزانة. ثمة عروسان، والطريق طويل.
علي الخليلي: شاعر من فلسطين