ArabComments
Wednesday, April 05, 2006
  عصر الحرب .. الولايات المتحدة تواجه العالم


عصر الحرب .. الولايات المتحدة تواجه العالم
تأليف: جابرييل كولكو
ترجمة وعرض: عمر عدس


يتناول كتاب “عصر الحرب: الولايات المتحدة تواجه العالم”، معالم السياسة الخارجية الأمريكية، ودوافعها وأهدافها، منذ سنة ،1950 وبتركيز خاص على الفترة التي بدأت سنة 2000. ويحرص الكتاب على تقديم الأحداث التي يشهدها الناس يومياً، في إطارها التاريخي، لتصبح أقرب الى الفهم، وأرسخ في الذهن. وهذا الإطار التاريخي للأحداث هو موضوع الكتاب، كما يقول مؤلفه.


ويسعى الكتاب الى تصويب الخطأ الذي يقع فيه كثير من الدارسين للسياسة الخارجية الأمريكية، حين يهملون معنى السلوك الأمريكي والظروف التي أفضت إليه. فالسياسة الخارجية الأمريكية نسيج واحد متكامل، لا يمكن فهمه بدقة إلاّ في إطاره التاريخي.


ويبين الكتاب التغيرات الجوهرية التي أدخلت على أولويات الولايات المتحدة بحلول سنة ،1950 بالمقارنة مع الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية. ففي سنة 1940 وبعد اندلاع الحرب العالمية، كانت الولايات المتحدة تنفق 18% فقط من ميزانيتها الاتحادية على الدفاع القومي. ولكن إجماع الحزبين الديمقراطي والجمهوري على الخوف من الشيوعية، وضرورة زيادة الإنفاق العسكري، رفع نسبة الإنفاق على الدفاع والشؤون الدولية سنة ،1948 مع احتدام الحرب الباردة، ومع المساعدات الاقتصادية الهائلة التي كانت تقدم الى أوروبا الغربية، الى 46% من الميزانية الاتحادية. وبحلول سنة ،1952


ومع الحرب الكورية، ارتفعت هذه النسبة الى 72%. وفي سنة ،1968 ومع حرب فيتنام كان نصف الميزانية الاتحادية يذهب الى الإنفاق العسكري والشؤون الدولية. وفي سنة ،2005 ما يزال الجيش الأمريكي يحظى بنصيب الأسد من النفقات الاتحادية، أي أكثر من خمسيْ الميزانية. ويرى المؤلف أن النتيجة التي ترتبت على ذلك، هي الإهمال الأساسي للاحتياجات والضرورات الإنسانية، في الولايات المتحدة، والتدهور المتزايد لحالة البنية التحتية العامة من طرق وجسور وغيرها، وما يحتاج الناس اليه من رعاية صحية وما إليها.


ويعتقد المؤلف أن هذا التحول في الأهداف الأساسية للدولة، الى إهمال الاحتياجات المحلية، عملية مستمرة بدأت جذورها بعد الحرب العالمية الثانية. ويتناول الكتاب هذه التحولات، باعتبارها أحد جوانب اخفاقات السياسة الخارجية الأمريكية منذ ذلك التاريخ، التي حدثت رغم الجهود الجبارة، ورغم التكلفة الاجتماعية والاقتصادية الهائلة.


مؤلف الكتاب هو جبرييل كولكو (1932-) المؤرخ والكاتب، الذي انضم الى قسم التاريخ في جامع يورك (تورنتو - كندا) سنة 1970. ومن بين ما يهتم به في أبحاثه، التاريخ والسياسة الخارجية للولايات المتحدة في القرن العشرين. وهو مؤلف العديد من الكتب في هذا المجال، ومن بينها (السلطة والثروة والقوة)، و(جذور الحرب)، و(تشريح الحرب، فيتنام والولايات المتحدة والتجربة التاريخية الحديثة)، والكتاب الذي بين أيدينا، الصادر عن دار لين راينر، يقع في 199 صفحة.
بعد فصول يستعرض فيها المؤلف تاريخ السياسة الخارجية الأمريكية، يركز، كما وعد في مقدمة الكتاب، على مرحلة مطلع القرن الحادي والعشرين، فيتحدث عن التصدع الذي اعترى العلاقات الدولية في تلك المرحلة، وتأثير الولايات المتحدة في إيجاده، فيعتبر في فصل بعنوان : العالم يتصدع، حرب سنة 1999 في يوغسلافيا بداية مرحلة أساسية جديدة في العلاقات الدولية، وبداية نهاية حلف شمال الأطلسي، التي كانت حتمية، كما يقول، وتدريجية في الوقت ذاته، ويرى ان الرئيس بوش قد ساهم في تعجيلها رغم أنها بدأت في عهد إدارة الرئيس بيل كلنتون. ويقول ان الجغرافيا السياسية قد برزت جلية في هذه المرحلة، من دون أوهام سياسية تشوش رؤية النيات والمصالح الأمريكية، كما كان يحدث من قبل.


ويقول: إنه صار لزاماً في هذه المرحلة، على دول العالم، ومن بينها روسيا والصين، وجميع الدول العظمى التي تحالفت مع الولايات المتحدة بعد سنة ،1945 أن تعيد تقييم الأولويات الأساسية للولايات المتحدة في العالم، وعلاقاتها المستقبلية مع روسيا والصين. فقد بات واضحاً لكل ذي بصيرة الآن، عزم الولايات المتحدة على لعب دور في العالم، مستقل وأحادي، بصور علنية، وبات واضحاً، كذلك أن هذا الدور قد اختمر وأصبح محدد المعالم في أذهان صناع القرار في واشنطن. وبذلك، أخذ العالم يتحرك مرة أخرى، بالتدريج ولكن باطراد، باتجاه تعدد الأقطاب، الأمر الذي ساهمت أعمال بوش في تعجيله، رغم أنه كان النتيجة المنطقية لأزمات البلقان، والصراع الفلسطيني “الاسرائيلي”، والأزمات التي نشبت عقب سقوط الاتحاد السوفييتي. يضاف الى ذلك ان الصراعات الأهلية في أوروبا، وبالقرب منها، مزقت السلام الذي ظل مخيماً فترة طويلة على المنطقة، وكشفت للعيان محدودية دور حلف شمال الأطلسي كنظام وحيد للأمن في القارة الأوروبية. وبالفعل، فإن الحرب في يوغسلافيا، أجبرت بعض كبار المفكرين الاستراتيجيين في الولايات المتحدة، على التسليم بأن توريط واشنطن نفسَها في شرك قضايا تخص دولاً من الدرجة الثالثة، كان خطأ فادحاً، وأنه جاء على حساب التضحية بعلاقاتها مع اليابان، وأعدائها الشيوعيين السابقين، وعلى حساب قيامها بمسؤولياتها المحلية، وغير ذلك. وقد سلّم هؤلاء المفكرون في النهاية بأن اندفاع الولايات المتحدة الى التدخل في العالم، أدى الى وجود سياسة خارجية غير متماسكة، واجهت من التحديات أكثر مما تستطيع التعامل معه.


ويرى المؤلف ان الطريقة التي تصورت بها الولايات المتحدة العالم ودورها المهيمن فيه، في نهاية القرن العشرين، إلى جانب ادعاءاتها بشأن الوسائل والمؤسسات التي تملكها لتحقيق غاياتها، كان يشوبها الاضطراب على نحو خطير. فلا الأمم المتحدة ولا حلف الناتو وفّرا لها الآليات السياسية أو العسكرية اللازمة لتحقيق طموحها، كما ان القوانين الدولية السائدة والمؤسسات القائمة، وقفت حجر عثرة في طريق تحقيق ذلك الطموح، من دون ان تظهر بدائل معقولة لتلك القوانين والمؤسسات. ويرى المؤلف ان طموحات الولايات المتحدة، كانت تتجاوز بكثير مقدرتها على تحقيق هدفها النهائي المتمثل في قيادة العالم بالاتجاه الذي يحدده مؤشر طموحها الهائل، سواء في أوروبا أو في العالم الثالث. وفوق كل ذلك، ظل عدم إتقان اللعبة السياسية، هو كعب أخيل، ونقطة الضعف القاتلة للطموحات الأمريكية. فقد ظل العالم، بظروفه السياسية والاجتماعية البالغة التعقيد، يراوغها، مثلما ثبط عزائم كل الدول الأوروبية القوية التي ظلت على مدى القرون المنصرمة تطمح الى فرض زعامتها على العالم.


ويتابع المؤلف قائلاً: إن الورطة لا تقتصر على ثبات الولايات المتحدة على الأولويات العالمية التي وضعتها نصب عينيها، والتي تتجاوز مقدرتها العسكرية والسياسية، بل تشتمل كذلك على أن العديد من بقاع العالم التي تدخلت بها واشنطن في الماضي، ظلت ترتب عليها واجبات ومسؤوليات دائمة مستمرة، وخلفت لها إرثاً مثيراً للمتاعب، يُتوقع له أن يستمر في خلق التحديات لها في المستقبل. فقد بدت بعض الدول مثل أفغانستان وهايتي هاجعة نسبياً لفترة وجيزة، ولكنها سرعان ما اشتعلت من جديد. فما تزال الولايات المتحدة بعد ما يقرب من نصف قرن من انتهاء الحرب الكورية، تحتفظ ب 37 الف جندي هناك. وبعد عقد من حرب الخليج الأولى، لا تزال القوات الجوية والزوارق الأمريكية تعمل في الخليج، وسوف تبقى في أفغانستان والعراق الى أجل غير مسمى، ربما يبلغ عقوداً عديدة. وقد تورطت في البلقان قبل أكثر من عقد من الزمن، وفي سنة 2004 كان ما يزال هنالك 20 الف جندي من جنود الناتو، ثلثاهم تقريباً أمريكيون.


ويضيف المؤلف، ان اندفاع الولايات المتحدة المتهور وغير القابل للسيطرة، الى التدخل في الأزمات في جميع أقطار الأرض، تحت غطاء من التبجحات الرنانة، أدى بها الى أن تضحي بالأهداف والمصالح الكبرى، الأهم لها وللسلم العالمي. كما ان إقصاء روسيا والصين، الذي نجم عن حرب يوغسلافيا سنة ،1999 والذي جعل وجود نوع من التحالف الاستراتيجي بين هاتين الدولتين أمراً محتملاً، يعني ان ظهور مواجهة ثنائية القطب، من جديد، وعودة الحرب الباردة بصيغة أخرى غير أيديولوجية، سوف يؤثران بعمق في العلاقات الدولية في المستقبل.


ويرى المؤلف ان الولايات المتحدة، كانت لا تزال عشية انتهاء القرن العشرين، غير قادرة على السيطرة على معظم مشكلات العالم السياسية المعقدة. بل ان محاولاتها لفعل ذلك، أدت الى تفاقم هذه المشكلات. وكانت الطموحات الكونية التي استحوذت عليها، والتي بدأت أثناء الحرب العالمية الأولى، وتبلورت، ونضجت بعد سنة ،1945 أشد خطراً من أي وقت مضى، عليها ذاتها، وعلى العالم، على اختلاف دوله وشعوبه.


ولم تعد الحرب مسألة صراعات بين دول تكاد تكون متكافئة، مثلما هو شأنها على مدى العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، بل أصبحت شيئاً فشيئاً، مسألة تدخلات أمريكية، سواء لأسباب اقتصادية معقولة، أو لأسباب خاصة. وغدت الحرب مرادفة لمشكلة الولايات المتحدة، وطموحاتها وتطلعاتها، وأمزجتها الفكرية المتقلبة، ومعداتها العسكرية البالغة التعقيد، وأصبح على من يرغب في حل مشكلة الحرب، ان يعكف على دراسة هذه الدولة المتجرئة بكل أبعادها.


ويتابع المؤلف قائلاً: ان الولايات المتحدة، وحدها من بين كل الدول، تملك اليوم الرغبة في امتلاك سياسة خارجية كونية، وفي الاعتقاد بأن كل جزء في العالم، يحتمل أن يكون مهما لها، وأنها تملك الحق والواجب للتدخل في كل مكان، بالقدر الذي تراه ضرورياً. وهي تملك طيفاً من الاستراتيجيات التي تسند إليها دوراً فعالاً، وتتيح لها أن تحدد مصير كل قارة من القارات. وهي تعتقد أنها تملك مصادر القوة العسكرية، او هي ستحصل على أشكال منها أشد فتكاً، وأن اقتصادها يستطيع تحمل التدخلات والحفاظ على الازدهار المحلي، وان عامة الأمريكيين سوف يدعمون اي تدخل لازم لوضع شؤون أي دولة أو منطقة في العالم على المسار السياسي والاقتصادي الذي تعتبره ضرورياً. وكانت هذه المهمة على الدوام تحظى بتأييد الحزبين، وهنالك إجماع أساسي يشترك فيه الحزبان، مهما كان حجم خلافهما على التفاصيل، التي تتعلق بأغراض انتخابية مؤقتة على الأغلب.


ويضيف المؤلف، قائلاً: ان الولايات المتحدة بعد حربي كوريا وفيتنام، لم تعترف بأن لطموحاتها واستراتيجياتها حدوداً. ولم تستطع التخلي عن عجرفتها، وإحساسها بما تعتبره قدرها المحتوم إزاء دول العالم، أو افتراض ان الرد على التعقيدات السياسية يتلخص ببساطة في إنفاق المزيد من الأموال على المعدات العسكرية. ولو فعلت، لكان ذلك نكبة للصناعات التي تعتمد على العسكرية والجيش. ولكن ذلك ليس كل الأسباب، بل يعود الى إحساس بالواجب مبالغ فيه، يرجع تاريخه الى القرن التاسع عشر.


ويقول المؤلف، ان ما لم يستطع زعماء أمريكا استيعابه موضوعياً أبداً، رغم تسليمهم على الصعيد المجرد بإمكانية حدوثه، هو ان المطالب والطموحات الأمريكية الكونية سوف تجعل الولايات المتحدة مغناطيساً جاذباً للمتاعب، وان الحرب قد تأتي الى عقر دارها . وقد عدّل 11 سبتمبر/ايلول قصر
النظر ذاك: فقد ارتدت عليها عواقب سياساتها الخارجية، وبقوة شديدة.


***


في فصل بعنوان “عصر الصراع الدائم”، يعرض المؤلف رؤيته للتاريخ وفلسفته، تمهيدا للحديث عن تقويمه للدور الذي تلعبه الولايات المتحدة حالياً في صنع هذا التاريخ، فيقول، إن الرجال والنساء الذين عميت بصائرهم، كانوا وما يزالون المحرّك للتاريخ الحديث، والمصدر الذي لا ينضب للتعاسة والدمار. فزعماء القوى العظمى الطموحون، لا يدركون ولا يعترفون قبل الشروع في مغامراتهم ان استراتيجياتهم بالغة الخطورة؛ والحنكة السياسية بحكم طبيعتها، تحسب دائماً مقدرة جيش الدولة ومواردها الاقتصادية على التغلب على التحديات التي تواجهها. ولكن رفض الساسة مثل هذا التعقل التقليدي ورفض الاستجابة للأزمات الدولية بناءً على أخطاء الماضي يجعلهم غير مؤهلين للحكم. والنتيجة أنهم ينجحون في تحقيق مآربهم الشخصية، ولكن الدول ترتكب أخطاء فادحة والشعوب تعاني. وباختصار، فإن الجشع والطموح والجهل، تقضي على التكامل الذي يفترض وجوده بين وظائف الأنظمة الحاكمة وبين من يتولون إرشادها. وقد دأبت الدول الكبرى في أوروبا واليابان على وضع أوهامها موضع التنفيذ قبل سنة 1945.


ويعود المؤلف إلى الحديث عن الولايات المتحدة، فيقول إن هذه الدولة، هي الوحيدة في بداية القرن الحادي والعشرين، التي تملك رغبة الحفاظ على سياسة خارجية كونية، وفي المستقبل القريب، سوف تتخذ الولايات المتحدة القرارت التي ستؤدي إلى الحرب أو السلام، وسوف يكون مصير معظم العالم في يدها.


ويضيف المؤلف، أن سيطرة هاجس القوة والقناعة بأن الجيوش تستطيع خلق المردود السياسي الذي يرغب فيه قادة دولة من الدول، ليست وهمًا مقصورا بحال من الأحوال على الولايات المتحدة. بل هي عقيدة تعود إلى قرون عدة خلت، كما أنها كانت وراء الحروب العظمى في عصرنا الحديث. وقد رافق حكم القوة الجنس البشري منذ أمد بعيد، كما أن الادعاءات الكامنة وراءه ما تزال تبتلي التاريخ البشري منذ قرون. ولكن زعماء الولايات المتحدة، خلافا لزعماء معظم دول أوروبا واليابان، لم يستخلصوا العبر من الويلات التي لفحت التاريخ الحديث بنارها. والحماقة ليست حكرا على الولايات المتحدة، ولكن حجم مقاومة التعلم عند ارتكاب الأخطاء الفادحة يتناسب مع حجم الموارد المتاحة والمتوفرة لتكرار هذه الأخطاء. فالألمان تعلموا الدرس بعد هزيمتين، واليابانيون تعلموه بعد الحرب العالمية الثانية، واقتنعت الدولتان بأن الحروب منهكة وخطيرة على الصعيد السياسي. ولكن الولايات المتحدة ما تزال تعتقد بأنه إذا فشلت قوة النيران في السيطرة على وضع ما، فإن الحل يكمن في استخدام المزيد منها، وفي تحسين دقة تصويبها. والولايات المتحدة في هذه النقطة بِدعٌ بين الدول، لأن أخطاءها السابقة لم تزدها حكمة.


ويقدم المؤلف صورة لوضع العالم الحالي كما يراه، فيقول: إن الحروب اليوم ما تزال متوقعة الحدوث مثلما كانت في أي وقت خلال القرن الماضي. وكان مهمّاً جدّا انتهاء الهيمنة السوفييتية في أوروبا الشرقية وتحجيم نفوذ موسكو في كل مكان. ولكن انتشار التكنولوجيا النووية وغيرها من وسائل التدمير الشامل جعلت أجزاء من العالم أشد خطورة بكثير. كما أن الحروب المحلية الدامية بالأسلحة التقليدية في إفريقيا، والبلقان، والشرق الأوسط وغيرها قد تضاعفت منذ ستينات القرن الماضي. إضافة إلى أن أوروبا، وألمانيا بخاصةٍ، واليابان، أقوى الآن بكثير وأشد استقلالية من أي وقت مضى منذ سنة ،1945 كما أن التوسع الاقتصادي السريع للصين قد أكسبها دوراً في آسيا أهم بصورة عظيمة. ويعني زوال الشيوعية من الناحية الايديولوجية أن الثنائية القطبية المبسطة التي كانت واشنطن تستخدمها في تفسير العالم كفّت بعد سنة 1990 عن أن يكون لها أي قيمة. ومعها زالت الأحلاف التي كانت قد خلقت في ظاهرها المقاومة الشيوعية، أو أصبحت ضعيفة هزيلة، ولم يعد لوجودها سبب. وتعكس الأزمة في منظمة حلف شمال الأطلسي تشتت كل أشكال القوة وقلة الهيمنة الأمريكية. وعلى الصعيد الاقتصادي استأنفت الدول الرأسمالية المنافسات فيما بينها، واشتدت هذه المنافسات مع نمو اقتصاد هذه الدول وانحطاط الدولار- الذي بلغ سنة 2004 من الضعف درجة لم يبلغها منذ خمسين سنة. وتشترك هذه الدول بعضها مع البعض في أمور كثيرة على الصعيد الايديولوجي، ولكن التنافس بينها يتزايد بصورة ملموسة. كما أن الاحتكار الفعلي للأسلحة النووية الذي ساد على مدى ربع قرن مضى تقريبا قد انتهى بالانتشار النووي.


ويتابع المؤلف قائلا: إن العالم سواء دعوناه “متعدد الأقطاب” على حد تعبير الرئيس الفرنسي جاك شيراك في نوفمبر/تشرين الثاني ،2004 حيث تتبع فيه أوروبا والصين والهند، وحتى أمريكا الجنوبية مصالحها الخاصة، أو دعوناه بوصف آخر، فإن الاتجاه واضح. وقد يكون هنالك، أو لا يكون “إعادة بناء أساسية للنظام العالمي”، كما قال رئيس مجلس الاستخبارات القومية التابع لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سنة ،2003 ولكن النتيجة التي لا يمكن تجنبها هي “اننا نواجه مجموعة من التحيزات أكثر سلاسة وأشد تعقيدًا، مما رأيناه منذ تشكيل التحالف الأطلسي سنة 1949”، وقد تحدى الإرهاب والاقتصاد العالمي القوة العسكرية الأمريكية بصورة ساحقة، وان “قنابلنا الذكية ليست على ذلك القدر العظيم من الذكاء”.


ويمضي المؤلف قائلا، إن الحروب سواء كانت أهلية أو بين الدول، تظل التحدي الأساسي (وإن لم يكن الوحيد) الذي يواجه الإنسانية في القرن الحادي والعشرين. كما ان الكوارث البيئية التي تؤثر بشدة في جميع ابعاد البيئة خطيرة بسبب عدم رغبة الدول المهمة - وعلى رأسها الولايات المتحدة- في تبني الاجراءات الضرورية لتلافي اضرارها. ولم يسبق للتحديات التي تواجه البشرية ان كانت على هذا القدر من الخطورة والتعقيد، ولا يكاد انتهاء الحرب الباردة يكون سببا للرضا والتفاؤل. فالمشكلات التي تجابه العالم تفوق بكثير التوترات الشيوعية الرأسمالية التي كان العديد منها أعراضا لمشكلات فكرية وسياسية واقتصادية أكبر، كانت تبتلي العالم قبل سنة 1917- وما زالت قائمة.


ويعود المؤلف إلى الحديث عن الولايات المتحدة فيقول، إن تدخلاتها مهما يكن القصد الأصلي منها، يمكن ان تؤدي الى التزامات مفتوحة في أمدها والجهود التي تتطلبها. فقد تستمر زمنا قصيرا، وهي كذلك في العادة، ولكن أحداثا غير متوقعة يمكن ان تجعل الولايات المتحدة تنفق من الموارد أكثر بكثير مما توقعته أصلا، مسببة لها باسم مصداقيتها أو أي مبدأ آخر ان تقع في أوضاع مدمرة تؤدي في النهاية إلى هزيمتها. وحرب فيتنام هي المثال الرائد على هذه النزعة، ولكن حرب العراق مهما تكن مختلفة في الدرجة هي من النوع ذاته. ولو واجهت الولايات المتحدة حتى بعضا فقط من الدول الأربعين أو أكثر التي تضم الآن شبكات إرهابية فسوف تتدخل بطريقة أو بأخرى في كل مكان، ولكن بوجه خاص في افريقيا والشرق الأوسط. وسوف تكون عواقب مثل هذه التدخلات غير قابلة للتنبؤ بها.
ويتابع قائلا، ان للولايات المتحدة الآن أعداء أشد تصميما وربما أكثر عددا مما كان لها في أي وقت آخر، والعديد منهم الذين يكرهونها مستعدون وقادرون على جلب الدمار إلى شواطئها. وكثيرا ما تكللت تدخلاتها بالنصر بالمعنى العسكري البحت، وهو كل ما يعني الولايات المتحدة، ولكن في العديد جدا من الحالات، كانت هذه التدخلات فاشلة سياسيا، وأدت في النهاية إلى تورط عسكري وسياسي أمريكي أكبر. وقد أدت بها عقليتها التدخلية بالغريزة إلى التورط في اوضاع كثيرا ما لم يكن لها فيها مصلحة، ولا تشكل حلولا دائمة لمشكلات دولة ما، وتخلق العداوات المدمرة والدائمة بصورة متكررة. ان الولايات المتحدة تملك القوة ولا تملك الحكمة، ولا تستطيع رغم التجارب المتكررة، ان تدرك حدود تقنياتها العسكرية فائقة التطور. وقد أكدت أحداث 11 سبتمبر ذلك، وجلبت الحرب إلى شواطئها.


ويرى المؤلف ان اقلاع الولايات المتحدة عن ممارسة الوظيفة التي حددتها لنفسها والتي تتدخل بموجبها لحل المشكلات حينما وأينما وكيفما تشاء، هو شرط أساسي لوقف الحروب والتدهور في الشؤون العالمية. فهي لا تملك الحق ولا والكفاءة أكثر من أي دولة أخرى لفعل ذلك مهما تكن الأسباب التي تسوقها. فالمشكلات كما يبين تاريخ القرن الماضي أكبر من دور الولايات المتحدة في العالم؛ ولكن أفعالها في الوقت الراهن حاسمة، لأن الحرب أو السلام يتقرران على الأغلب في واشنطن أكثر من أي مكان آخر. بيد أن السلام في نهاية المطاف لن يتحقق في العالم إلا إذا نبذت جميع الدول الحرب كأداة للسياسة لا للأسباب الأخلاقية والمعنوية فقط بل لأن الحرب أصبحت أشد فتكا وأكثر تدميرا للمؤسسات الاجتماعية. ومن الشروط المسبقة لتحقق السلام ان تكف الدول عن فرض تصوراتها على الآخرين وعن افتراض ان حاجتها إلى الموارد الاقتصادية او الاستراتيجية المتوفرة لدى دولة أخرى يعطيها الحق للتدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدولة بشتى السبل.


ويرى المؤلف أن أحداث 11 سبتمبر قد أثبتت أن الولايات المتحدة بعد نصف قرن من التدخلات أفلحت في إثارة المزيد من العداوة والبغضاء وفشلت فشلا ذريعا في جلب السلام والأمن للعالم وأن دورها كقوة عظمى مارقة وتدخلاتها المشوشة الرعناء لم تكن ناجحة أبدا حتى بمعاييرها هي. فهي تبدد موارد اقتصادية هائلة، كما أنها الآن تعرض السلامة الجسدية للأمريكيين في الخارج للخطر. ويعني انهاء الأذى الذي تسببه الولايات المتحدة في الخارج نهوض الساسة الأمريكيين بمسؤولياتهم تجاه شعبهم في الداخل. غير أنه لا توجد أية بوادر ولو ضئيلة في هذه المرحلة تدل على أن الناخبين الأمريكيين سوف يطلبون محاسبة هؤلاء الساسة، كما لا يحتمل ان يوافق الشعب الأمريكي ولا زعماؤه على إجراء مثل هذه التغييرات الواسعة على السياسة الخارجية. ولكن القضايا أخطر من أن تنتظر حدوث تحولات في مواقف أمريكا وعمليتها السياسية. وان العالم سيكون أكثر أمنا عندما تنحل تحالفات الولايات المتحدة وعندما تعاني العزلة، وذلك يحدث الآن لعدة أسباب بدءاً بالنزعة الأحادية الفردية والعجرفة وأسلوب الاستباق الذي تمارسه إدارة بوش، وانتهاء بحقيقة التغير الذي طرأ على التحالفات السياسية في العالم بعد زوال الشيوعية.


ويعتبر المؤلف ان القرن الحادي والعشرين قد بدأ على نحو بالغ السوء لأن الولايات المتحدة ماضية في سياساتها العدوانية. وهي أخطر بكثير من السياسات التي مارستها في القرن العشرين لأن القدرة التدميرية للأسلحة ازدادت زيادة هائلة ولأن مزيدا من الشعوب صار بمقدوره الحصول عليها. ومشكلات السياسة الخارجية التي كانت تعتبر مشكلات صغرى نسبيا ذات يوم أصبح لها الآن عواقب أخطر بكثير. وقد بلغ العالم اليوم أخطر مرحلة له في تاريخه الحديث، بل ربما في تاريخه كله. وثمة اليوم من مخاطر الحرب وعدم الاستقرار ما لم يكن له مثيل أيام وجود الكتلة السوفييتية.


ويرى المؤلف أن العالم سوف يظل يعاني المشكلات الخطيرة حتى لو تخلت الولايات المتحدة عن التدخل، وسوف تستمر الصراعات الأهلية الطاحنة، وكذلك الحروب بين الدول المسلحة بمجموعة متنوعة من الأسلحة الأشد فتكا وتدميرا، والمتوفرة من الدول الخارجية، التي تظل الولايات المتحدة أهمها كمصدر لتوفير الأسلحة. والعديد من هذه الصراعات ذو جذور مستقلة، وتفيد المبادئ والتجربة المتكررة ان من الخير ان تدع الولايات المتحدة هذه الصراعات وشأنها، وأن تدع العالم يسيّر أموره. فالشعب الأمريكي والشعوب المعنية بهذه الصراعات ستكون في وضع أفضل من دون التدخل الأجنبي، بغض النظر عن الدولة التي تمارسه.


ويختم المؤلف كتابه بالقول: إن زعماء الولايات المتحدة لا يخلقون السلام أو الأمن في وطنهم، ولا الاستقرار في الخارج. بل على العكس، حيث أدت التدخلات إلى نتائج منافية للهدف، وكانت السياسة الخارجية الأمريكية كارثة مدمرة. وكان خيرا للأمريكيين و للشعوب التي تستهدفها الإدارة الأمريكية بتدخلاتها المتعاقبة، لو لم تفعل الولايات المتحدة شيئا، وأغلقت قواعدها فيما وراء البحار، وسحبت أساطيلها من كل مكان، وسمحت لبقية دول العالم ان تتلمس طريقها بنفسها. فقد ماتت الشيوعية، كما أن أوروبا واليابان قويتان وتستطيعان أن تعتنيا بمصالحهما الخاصة، وسوف تفعلان. ويجب على الولايات المتحدة أن تتكيف مع هذه الحقائق. ولكن إذا استمرت تفعل ما دأبت على فعله طوال نصف القرن الماضي، وهي تحاول تحقيق طموحها المفعم بالغرور والمنافي للمنطق لإدارة العالم، فسوف يكون هنالك المزيد من الحروب والفوضى على المزيد من الدول مثلما على شعبها ذاته. وسوف يكون الفشل حليفها، لأن جميع الدول التي ذهبت إلى الحرب على مدى القرون الماضية لم تحقق الأغراض التي سفحت في سبيلها كل تلك الدماء، وتكبدت كل تلك الآلام، وبددت كل تلك الموارد، من دون أن يجني العالم سوى شقاء لا ينتهي، وثورات من كل نوع.



 
Comments: Post a Comment



<< Home
سلام ... Salam ... Here are "ArabComments" on trends and events related to our lives, individually as well as collectively as Arabs living in and out of our Arab Home Lands. We speak on love, religion, and politics of "neo-colonialism". We discuss a diversity of issues, ranging from InfoTech and InfoSec, to everyday price of bread, and everyday price of freedom. You are welcome to add your comments, just as long as they are not propaganda,i.e. SPAM, … Peace … سلام

ARCHIVES
Archives
December 2005 / January 2006 / February 2006 / March 2006 / April 2006 / May 2006 / June 2006 / July 2006 / September 2006 / October 2006 / November 2006 / January 2007 / February 2007 / June 2007 / July 2007 / September 2007 / May 2008 /


TechTags !

، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ،،،

Powered by Blogger