ArabComments
Sunday, April 09, 2006
  عبد السلام العجيلي : أيقونة "الرقة " وحارس " الفرات " - بقلم محمد عبيد الله


عبد السلام العجيلي : أيقونة "الرقة " وحارس " الفرات "


الطبيب الذي تطوّع في جيش الإنقاذ .. والأديب الذي أحيا تقاليد السرد العربي


محمد عبيد الله



ماذا يفعل هذا البدويّ الحداثي كل هذه السنوات ؟ ولماذا احتمى من عصره المتفجّر ببلدته ( الرقة ) التي تتوسّد الفرات .. وتتشكل من ( رقائق ) رمله وطميه ؟ تُرى هل جُبِلت روح ( العجيلي ) من ذلك الرمل ، فأخذت أسراره ، ولم تبح بها إلا في لحظات الكتابة ومخاضات السؤال ؟ هل استهوته البادية إلى هذا الحدّ فقرر أن يكون الصوت الطالع منها في زمن المدينة والحداثة ؟!


كل المبدعين العرب أو معظمهم ممن خرجوا من الهوامش والأرياف ، ذهبوا رأسا إلى العواصم ، ومن هناك كتبوا ( رومانسياتهم ) واستذكروا منازلهم الأولى ، باستثناء بدوي واحد يدعى عبد السلام العجيلي ، والعجيب أنه عرف إغواءات العاصمة في الخمسينات ، عرفها وهو في قمة السلطة : وزيرا للخارجية وللثقافة والإعلام ، وعرفها قبل ذلك إبّان دراسته للطب في جامعة دمشق ، لكنه عاد منها إلى قريته وافتتح ( عيادة في الريف ) حسب عنوان أحد مؤلفاته ، وقد شهدت مرحلة الدراسة انقطاعه المؤقت ، وتطوّعه في جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي ، حيث عرف صفد والجليل وتعرف إلى شخصيات من بدو الشمال ، وكتب عنها وعن تلك المرحلة كتابات خالدة في قصصه ومذكراته مما يشكّل جزءا من حضور فلسطين الدائم في وعيه ووجدانه وممارسته وإبداعه .


عاش حيوات في حياة ، في طفولته كانت أسرته ما تزال على عادات البداوة ، " في الصيف والشتاء تقطن المدينة ـ القرية ، وفي الربيع تغادرها إلى مناطق الكلأ " كما يقول محمد جدّوع في كتابه الهام عن ( التاريخ والعجيلي ) وفي الكتاب نفسه ينقل عن العجيلي قوله " لقد عاصرت هذا اللون من الحياة وعشقته في طفولتي وأول صباي فظلت ذكرياته وصوره منقوشة إلى اليوم على الرغم من زواله " .. البادية تحولت إلى ريف مع التوجه إلى الزراعة ، والعجيلي عاش النمطين ، وعاش نمط المدينة في دمشق ، طالبا في كلية الطب ، فنائبا في البرلمان فوزيرا في ثلاثة مواقع هامة ، ولكنه ينسج من هذه الحيوات والأنماط تكوينا متماسكا متوازنا ، ويظل البدوي القديم جوهر شخصيته النبيلة المتواضعة .


ألّف في حياته الحافلة خمسة وأربعين كتابا تنتمي لأنواع وأجناس كثيرة ، روايات وأدب رحلات وأحاديث ومحاضرات ومذكّرات ، وما من قطعة من تلك الكتب إلا وترتبط بوجدانه وحياته ، فمنذ أن قابل ( نجيب الريّس ) في طفولته في مجلس العائلة ، وهو يعي أن الكتابة نضال مستميت من أجل الحياة ، وأنها دفاع عن وجود الإنسان ، وليست لغة مترفة فارغة .. وقد تأكد عنده هذا بالتجربة والمعايشة وهو الذي انخرط في صميم أحداث عصره ، واكتوى بناره ولكنه ، مثل طائر الفينيق ، يتجدد بعد كل احتراق .


وما من مثقف عربي عانى ما عاناه العجيلي ، فبالرغم من عصاميته وعطائه ، مورس ضده كثير من الاضطهاد والنفي ، نفي من الحياة السياسية والعامة زمن صعود الخطابات الأيديولوجية والثورية ، واتّهم بالإقطاعية والرجعية من الاشتراكيين الجدد ، ونفي من الحياة الثقافية التي تتحكم فيها الأيديولوجيا ، فاتهمه "النقد الإيديولوجي " بالتهم الفارغة نفسها .. أما النقد العربي خارج سوريا فلم تعجبه طريقة العجيلي المغايرة للكتابة السردية المؤتمة بالشكل المستعار من الغرب ، وحار في هذا الكاتب الذي يجدد أشكال الحكاية والأحاديث والعشيّات .. ويكتب على غير مثال سابق .. كيف يدرس مثل هذا المبدع وكيف يمكن تنميطه وهو الذي يستمد تقنياته وأحوال كتابته من الثقافة العربية ومن التجربة الفريدة التي عاشها .. التجربة التي لا تتشابه مع المألوف من تجارب الكتاب والبشر.


ما لهذا الطبيب المتعلم الذي انضم إلى أطباء الأدب مثل : تشيخوف ويوسف إدريس ، يكتب كما لو كان لا يؤمن بالعلم ، بل يؤمن بالسحر والخرافة ؟ وما لهذا الطبيب يستعير لغة فخمة عالية من الشعر القديم ومن النثر الرفيع ، ولا يكتب بالعامية القريبة من الحياة ؟؟ لماذا يعاند عصره وينأى عنه؟؟


ولكن العجيلي ينظر بسخرية إلى هذه الأسئلة ، ويقول للمنتقدين " ليس كمثلي إنسان يؤمن بالعلم ، لكنني أعرف أكثر من غيري، أن العلم ليس شيئا محدودا قد بلغنا في العصر حدوده ، ولم تبق مجاهيل في العالم حولنا ، الواقع أن الإنسان قد قطع شوطا كبيرا في معرفة نفسه ومعرفة سلوكه ، لكن ما عرفه لا يزال قليلا جدا ، وضئيلا أمام المغيبات عن معرفته ".


كتب العجيلي تجارب عاشها في الطب والسياسة والحياة ، كتب قصص الرحلات والقصص العلمية ، وكتب عن البادية ، وكتب عن فلسطين من منظور المعايشة والتجربة ، وأتيح له حياة متفردة لم يعشها أحد سواه ، ومن جماع هذه التجربة التي تداخلت مع ثقافة أدبية عربية وثقافة علمية ، كتب مؤلفاته العديدة ، وربما لهذا السبب وبالرغم من الإقرار بريادته ، ظلت طريقته أسلوبا فرديا فريدا لم يقلّده أحد ، ولم يتحوّل إلى مدرسة أو تيار في الكتابة السورية أو العربية .


ينتصر العجيلي للروح ضد المادة والجسد ، ويقرأ ذلك في وعي الأمة وروحها " أنا من أمة آمنت دوما بأن الروح فيها أولى من الجسد ، وبأن معاني مجردة مثل الجود والشجاعة أو الذكر الحسن هي أسمى من المال أو طول البقاء أو من الحياة نفسها ".


بداية الشهر الأخير من العام الماضي( كانون الأول 2005) ، انعقد أول وآخرتكريم واضح للعجيلي ، بتسمية ملتقى باسمه ، بمبادرة من بعض أهل بلدته وبالتعاون مع وزارة الثقافة السورية ، في الوقت الذي قارب التسعين ولم يعد قادرا على أن يشهد تكريمه أو ينفعل به .. واكتفى بإرسال خطاب قصير معبّر إلى المحتفين به .. لكن الحاضرين من الأدباء العرب ومن أدباء القطر السوري أقرّوا بموقعه في وجدانهم وبدوره في الثقافة العربية ، صلاح فضل عبّر عن الجميع في كلمته وذهب إلى أن العجيلي ( جعل من ( الرقة ) إحدى عواصم الرواية العربية ، وأن إبداعه إبداع إنساني عرف كيف يكسر جدار العزلة أكثر من بعض من يقيمون في العواصم الكبرى ) .


وحين زرنا العجيلي ، وجدنا منزلا بسيطا لا يفترق كثيرا عن منازل الرقة ، الشيخ صاحب العينين الجريئتين ملتفا بعباءته ، مازال يتطلع بهما إلى البعيد البعيد ، ربما إلى كل مكان بلغته رحلاته وكتاباته ..يدان صغيرتان كيدي طفل ، ولكنهما مع خطوط الزمن فيها ، مع عروقهما المستنفرة تشهدان بالطاقة الداخلية التي يخبئها الرجل ، تلك الطاقة التي سمحت له أن يعيش كل تلك التجارب ولا يتحول إلى الجنون .


رحل عبد السلام العجيلي في الرقة بلدته الأثيرة التي لم يبدل بها عاصمة أو مدينة، ظل على مدار عمره يلوذ بها ويستمد منها أفقه الإنساني الممتد. لكن أعماله ستظل خالدة تذكر دوما بأن العجيلي عبر عالمنا ذات زمن ندر.
فيه الوفاء للإنسان والمكان.



محمد عبيد الله
mmobaidd@yahoo.com
 
Comments: Post a Comment



<< Home
سلام ... Salam ... Here are "ArabComments" on trends and events related to our lives, individually as well as collectively as Arabs living in and out of our Arab Home Lands. We speak on love, religion, and politics of "neo-colonialism". We discuss a diversity of issues, ranging from InfoTech and InfoSec, to everyday price of bread, and everyday price of freedom. You are welcome to add your comments, just as long as they are not propaganda,i.e. SPAM, … Peace … سلام

ARCHIVES
Archives
December 2005 / January 2006 / February 2006 / March 2006 / April 2006 / May 2006 / June 2006 / July 2006 / September 2006 / October 2006 / November 2006 / January 2007 / February 2007 / June 2007 / July 2007 / September 2007 / May 2008 /


TechTags !

، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ، ،،،

Powered by Blogger