يُرش الماء من دلو خشبي أو نحاسي بمغرفة على الحجارة الملتهبة فيغدو بخاراً لاسعاً يجعل الجسم ينْفَضِخ أي يتصبّب عرقا وهناك كلمة فنلندية خاصة لهذا البخار. إن جلد الانسان يسخُن بسرعة فبعد حوالي أربع دقائقَ تصل درجة حرارته أربعين درجة سالزيوس، وعندها يتصدّى لذلك الدفاع البدني بواسطة التصبب عرقا لتبريد الجلد ويتسارع خفقان القلب لمدّ الجسم بالدم المطلوب، حوالي تسعة إلى عشرة لترات في الدقيقة في حين أن الضخّ العادي يصل إلى ما بين أربعة إلى ستة لترات في الدقيقة. كما وأن هناك عادة لدى الفنلنديين لا سيّما في فصل الصيف وهي جلد أجسادهم بحزمة من غُصينات شجر البتولا أو قضبان ذات الرائحة الزكية أو من غصينات الزيزفون. لمثل هذه الحزمات اسم خاص بالفنلندية ويمكن شراؤها خضراء صيفا أو مجففة في الأسواق وقد تملّح للمحافظة على نضارتها وفي العصر الراهن تحفظ هذه الحزم أو الضمم الصغيرة في المجمِّد، الفريزر. غالباَ ما يحتسي الفنلنديون الجعة أثناء هذا الاستحمام وبعده ولا يُستحسن احتساء الكحول قبل الساونا أو خلالها أو بعدها.
بالإضافة إلى النوعين آنفي الذكر للساونا هناك نوع ثالث أقل استعمالاً منهما وهو ساونا الدخان. ومن النصائح للمستحمّ في الساونا يمكن التنويه بما يلي:
عند خلعك لملابسك اخلع عنك كل المشاكل والمنغّصات الحياتية وادخل غرفة البخار رأسا أو إثر دُشّ. لا تدخل الساونا إثرَ تناول الطعام رأساً بل يجب انتظار ساعة واحدة على الأقلّ وتجنّبِ المشروباتِ الروحية. ومن المحبّذ الاستلقاء على الظهر ورفع الرِجلين فهما قادرتان على تحمّل الحرارة أكثر من الرأس. وبعد الاستحمام لا بدّ من ارتداء ملابس دافئة لتجنّب الزكام. ومن الضروري تناول كمية كافية من السوائل بعد الساونا لتعويض الجسم ما فقده منها ومن تناول الطعام المملح لتعويض ما أفرزه البدن من أملاح.
الساونا ليست مكاناً للاستحمام وتنظيف الجسم فقط بل هي مكان مناسب جدا لراحة العقل وشفاء للروح والتأمّل والاسترخاء وعقد الاجتماعات واللقاءات واتخاذ القرارات الهامة، إلا أنها ليست لمزاولة الجنس كما قد يعتقد الكثيرون من الأجانب.
وفي الساونا الكلّ عُراة كما ولدتهم أمهاتُهم والكل متساوون وفيها مسحة عميقة من السكينة والصوفية. أضف إلى ذلك أن الساونا قد استخدمت حتى بداية القرن العشرين لإنجاب الأطفال، ويتفاخر الكثيرون حتى اليوم أنهم ولدوا فيها.
كما وكانت العروس تستحمّ في الساونا قبيل حفلة الإكليل، الزواج. فالساونا مكان جدّ صحيّ وفيها تتهاوى كل الشكليات والرسميات وتتبخّر بتصاعد البخار اللاسع. وفيها أيضاً طُهّرت النساء قبل الزواج ودخلها المسنّون ليقضوا نَحْبَهم فيها. وفي اللغة الفنلندية أقوال مأثورة تعكس بجلاء بعض ميزات الساونا مثل مدى نظافتها وصحيّتها، بما معناه الحرفي: الساونا صيدلية الفقير. وهناك أيضا قول قديم يقول بأن على كل انسان أن يتصرّف في الساونا كتصرفه في الكنيسة، فلا ضجّة أو صراخ أو قسم. وأخيراً وليس آخراً يُقال بالفنلندية ما فحواه: إن أجمل هنيهة وأروعها بالنسبة للمرأة هي بعد الاستحمام في الساونا.
ولا بدّ من الساونا غداةَ أي عيد أو إثر رحلة صيد فهي رمز الراحة والاسترخاء جسديا ونفسيا وعقليا. ويقال أيضا إذا كانت الساونا والمشروب الثقيل والأشباح والقار عديمةَ الجدوى في الشفاء فالأمر ميؤوس منه.
وعند الحديث عن السياسة والساونا فلا مندوحةَ من ذكر الرئيس الفنلندي أُرْهو كاليفا كيكّونن 1900 – 1986) الذي كان مولعاً بالساونا وفيها كان قد اتّخذ العديد من القرارات السياسية الهامة. إلى جانب ذلك فللساونا حيّز وحُضور لا يُستهانُ بهما في الأدب الفنلندي، إذ أنها ذُكرت في الكاليفالا، ملحمة الشعب الفنلندي، وكذلك في الرواية الوطنية الفنلندية، الأشقّاء السبعة بقلم أليكسس كيفي 1872-1834). يقول الشقيق يوهاني في هذه الرواية ما معناه: بيت بدون ساونا أمرٌ لا يُحتمل، منزل بدون ساونا ساخنة وكلب ينبح وديك يصيح وقط يموء لا يستحقّ أن يُدعى بيتا. لا غرابةَ بعد هذه الفذلكة أن نشير إلى أن هناك جمعية فنلندية للساونا في هلسنكي في لاوتاساري أسست العام 1937) حيث ساونا الدخان ودكاكين متخصصة بكل ما يمتّ بالساونا بصلة من منتوجات. ولا شكّ أن الساونا رمز الفنلدة الأصيلة وقدِ ازدادت أهميتُها رمزاً ومؤشراَ للهوية الوطنية والثقافية إثر انضمام فنلندا للاتحاد الأوروبي.
تعود جذور ثقافة الساونا إلى المجتمعات الزراعية في العصور الغابرة والمدنية الحديثة لم تقلّل من أهميتها. يُقدّر عدد الساونات في فنلندا، التي يبلغ عدد سكّانها قرابة خمسة ملايين ومائتي ألف نسمة، حوالي مليوني ساونا. يستحم معظم الفنلنديين في الساونا مرة واحدة في الأسبوع وعادة يوم السبت. ولا بد من الإشارة إلى أن دعوة شخص إلى الساونا تنمّ عن الصداقة المتينة ولا يُستحسن عدم تلبية مثل هذه الدعوة.
وهناك حكاية شعبية فنلندية قديمة عن مزارع استخدم الساونا كي يقلل من نسبة احتمالاته في الذهاب إلى الجحيم. وهذه الحكاية غالباً ما تُروى على مسامع الأطفال لحثّهم على الاستحمام بانتظام. وقدِ اعتاد ذلك المزارع الاستحمام في الساونا مرارا وتكرارا إلى أن أصبح قادراً على تحمّل أعلى درجة حرارة ممكنة فيها. وكلما كانت الساونا حارّةً كلّما تمتّع بالاستحمام وشاع صيت ذلك المزارع بأنه تمتع بحرارة فاقت حرارة أية ساونا. وفي آخر المطاف سمع إبليس بقدرة ذلك المزارع الفائقة على تحمّل الحرارة العالية وقام برحلة خاصة إلى سطح الأرض للقائه. سمعت أنّك مُغرم بحرارة جدّ عالية في الساونا، سأل إبليس. وردّ المزارع عليه بالإيجاب. إذن دعني آخذك إلى مكان حارّ إلى درجة أنك ستتوسّل إليّ لإخراجك منه، قال إبليس. رافق المزارعُ إبليس فرحاً راضيا وعند اجتياز بعض أبواب جهنم صرخ إبليس على عفاريته آمرا إيّاهم بإلقاء المزيد من الحطب والفحم على النار العملاقة المتأججة. وأردف إبليس معلنا، لدينا اليوم صديق حميم يتوق إلى الحرارة الشديدة الملتهبة. ابتسم المزارع وانحنى لإبليس شاكراً له كرمه الحاتمي. اشتعلت جهنم اشتعالا فظيعا وتفجّرت البراكين القديمة وأخذ الجليد في القطب بالذوبان، أما المزارع فابتسم قائلاً: المزيد من النار لو سمحتم. صرخ إبليس مغتاظاً، المزيد من النار واللهب لهذا المزارع الغبي. جحيم إبليس كان جنّةً بالنسبة للمزارع المبتسم والشاكر لمضيفه على الوقت الرائع الذي قضاه عنده في ضيافته. وأخيراً وفي لحظة غضب جامح زعق إبليس على المزارع الفنلندي قائلاً له: أخرُج من هنا، لا أريدُ أن أرى سَحْنتك ثانيةً هنا. وهكذا عاد المزارع إلى مزرعته واجما كئيباً مكسور الخاطر إذ فقد حرارة الجحيم الرائعة ولكنه كان مسروراً من جهة أخرى إذ أنه علم أن مصيره مؤمّن. وهكذا الأطفال الفنلنديون الراغبون في الذهاب إلى جنّة عدن تعلّموا طريقة تجنّب الجحيم.
وقد يسأل سائل، ما الطريقة المثلى للاستحمام الفنلندي هذا، لا سيما في فصل الشتاء حيث قد تصل درجة الحرارة في الخارج إلى أكثر من ثلاثين درجة تحت الصفر، وعلى مثل هذا التساؤل خمسة ملايين جواب ونيّف كعدد أبناء الشعب الفنلندي في فنلندا، ومع هذا فإن أغلبية الإجابات تنصبّ دون ريب على أن الساونا في البيت أو في المصيف على شاطىء البحيرة هي الأفضل، والله أعلم.
في بلاد الشمال أيضا، كن جميلا تر الوجود جميلا.
رأي ، تعليق ، تدوين ، عربي ، عربية ، تقنيّات ، تقنيات ، معرفة ، أدوات ، إدراك ، مدوّنة ، تصنيفات ، تدوين ، تدوينة ، مفكرة ، أفكار ، تفكير ، قراءة ، مقروءآت ، إستقراء ، إقرأ ، ثقافة ، حضارة ، إنسانيات ، موسوعة ، تاريخ ، فطرة ، دراسات ، أبحاث ، إتصالات ، تواصل ، تعليم ، تربية ، تحدّي ، إكتشاف ، سؤال ، جواب ، شبكة ، معلومات ، معلوماتية ،،،